فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أي: أن قومًا قبلكم طلبوا ما أرادوا من الآيات؛ وأرسلها لهم الله؛ ومع ذلك كفروا؛ لأن الكفر يخلع ثوب العِنَاد على الكافر؛ لأن الكافر مُصَمِّم على الكفر.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ...} وما المناسبة التي يقول فيها الحق ذلك؟ لقد شاء الحق سبحانه أن يؤكد مسألة أن لكل قوم هاديًا، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم هو منذر، وأن طلبهم للآيات المعجزة هو ابنٌ لرغبتهم في تعجيز الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولو جاء لهم الرسول بآية مما طلبوا لأصرُّوا على الكفر، فهو سبحانه العَالِم بما سوف يفعلون، لأنه يعلم ما هو أخفى من ذلك؛ يعلم على سبيل المثال ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد.
ونحن نعلم أن كُلَّ أنثى حين يشاء الله لها أن تحبل؛ فهي تحمل الجنين في رحمها؛ لأن الرحم هو مُسْتقرُّ الجنين في بطن الأم.
وقوله تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ...} [الرعد: 8]
أي: ما تُنقص وما تُذهب من السَّقْط في أي إجهاض، أو ما ينقص من المواليد بالموت؛ فغاضت الأرحام، أي: نزلتْ المواليد قبل أن تكتمل خِلْقتها؛ كأن ينقص المولود عينًا أو إصبعًا؛ أو تحمل الخِلْقة زيادة تختلف عما نألفه من الخَلْق الطبيعي؛ كأن يزيد إصبع أو أن يكون برأسين.
أو أن تكون الزيادة في العدد؛ أي: أن تلد المرأة تَوْأمًا أو أكثر، أو أن تكون الزيادة متعلقة بزمن الحَمْل.
وهكذا نعلم أنه سبحانه يعلم ما تغيض الأرحام. أي: ما تنقصه في التكوين العادي أو تزيده، أو يكون النظر إلى الزمن؛ كأن يحدث إجهاض للجنين وعمره يوم أو شهر أو شهران، ثم إلى ستة أشهر؛ وعند ذلك لا يقال إجهاض؛ بل يقال ولادة.
وهناك مَنْ يولد بعد ستة شهور من الحمل أو بعد سبعة شهور أو ثمانية شهور؛ وقد يمتد الميلاد لسنتين عند أبي حنيفة؛ وإلى أربع سنوات عند الشافعي؛ أو لخمس سنين عند الإمام مالك، ذلك أن مدة الحمل قد تنقص أو تزيد.
ويُقال: إن الضحاك وُلِد لسنتين في بطن أمه، وهرم بن حيان وُلِد لأربع سنين؛ وظل أهل أمه يلاحظون كِبَر بطنها؛ واختفاء الطَّمْث الشهري طوال تلك المدة؛ ثم ولدتْ صاحبنا؛ ولذلك سموه هرم أي: شاب وهو في بطنها.
وهكذا نفهم معنى {تغيض} نَقْصًا أو زيادة؛ سواء في الخِلْقة أو للمدة الزمنية.
ويقول الحق سبحانه: {... وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8]
والمقدار هو الكمية أو الكيف؛ زمانًا أو مكانًا، أو مواهب ومؤهلات.
وقد عَدَّد الحق سبحانه مفاتيح الغيب الخمس حين قال: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام...} [لقمان: 34]
وقد حاول البعض أن يقيموا إشكالًا هنا، ونسبوه إلى الحضارة والتقدم العلمي، وهذا التقدم يتطرق إليه الاحتمال، وكل شيء يتطرق إليه الاحتمال يبطل به الاستدلال، وذلك بمعرفة نوعية الجنين قبل الميلاد، أهو ذكر أم أنثى؟ وتناسَوْا أن العلم لم يعرف أهو طويل أم قصير؟ ذكي أم غبي؟ شقي أم سعيد؟ وهذا ما أعجز الأطباء والباحثين إلى اليوم وما بعد اليوم.
ثم إنْ سألتَ كيف عرف الطبيب ذلك؟
إنه يعرف هذا الأمر من بعد أن يحدث الحَمْل؛ ويأخذ عينة من السائل المحيط بالجنين، ثم يقوم بتحليلها، لكن الله يعلم دون أخذ عينة، وهو سبحانه الذي قال لواحد من عباده: {يازكريا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى...} [مريم: 7]
وهكذا نعلم أن عِلْم الله لا ينتظر عيِّنة أو تجربة، فعِلْمه سبحانه أزليّ؛ منزه عن القصور، وهو يعلم ما في الأرحام على أي شكل هو أو لون أو جنس أو ذكاء أو سعادة أو شقاء أو عدد.
وشاء سبحانه أن يجلي طلاقة قدرته في أنْ تحمل امرأة زكريا عليه السلام في يحيى عليه السلام، وهو الذي خلق آدم بلا أب أو أم؛ ثم خلق حواء من أب دون أم؛ وخلق عيسى من أم دون أب، وخلقنا كلنا من أب وأم، وحين تشاء طلاقة القدرة؛ يقول سبحانه: {... كُن فَيَكُونُ} [يس: 82]
والمثل كما قلت هو في دخول زكريا المحرابَ على مريم عليها السلام؛ فوجد عندها رزقًا؛ فسألها: {أنى لَكِ هذا...} [آل عمران: 37]
قالت: {... هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37]
وكان زكريا يعلم أن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب؛ ولكن هذا العلم كان في حاشية شعوره؛ واستدعاه قول مريم إلى بُؤْرة الشعور، فزكريا يعلم عِلْم اليقين أن الله هو وحده مَنْ يرزق بغير حساب.
وما أنْ يأتي هذا القول مُحرِّكًا لتلك الحقيقة الإيمانية من حافة الشعور إلى بُؤْرة الشعور؛ حتى يدعو زكريا ربه في نفس المكان ليرزقه بالولد؛ فيبشره الحق بالولد.
وحين يتذكر زكريا أنه قد بلغ من الكبر عتيًا، وأن امرأته عاقر؛ فيُذكِّره الحق سبحانه بأن عطاء الولد أمر هَيِّن عليه سبحانه: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9]
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {عَالِمُ الغيب والشهادة...} ومَنْ كُلُّ شيء عنده بمقدار؛ لا يغيب عنه شيء أبدًا، وما يحدث لأيِّ إنسان في المستقبل بعد أن يُولَد هو غيب؛ لكن المُطَّلع عليه وحده هو الله.
وكأن هناك نموذجًا مُصَغَّرًا يعلمه الله أولًا؛ وإن اطلع عليه الإنسان في أواخر العمر؛ لوجده مطابقًا لِمَا أراده وعلمه الله أولًا؛ فلا شيء يتأبَّى عليه سبحانه؛ فكُلُّ شيء عنده بمقدار.
وهو عالم الغيب والشهادة؛ يعلمُ ما خَفِي من حجاب الماضي أو المستقبل، وكُلّ ما غاب عن الإنسان، ويعلم من باب أَوْلَى المشهودَ من الإنسان، فلم يقتصر علمه على الغيب، وترك المشهود بغير علم منه؛ لا بل هو يعلم الغيب ويعلم المشهود: {عَالِمُ الغيب والشهادة الكبير المتعال} [الرعد: 9]
والكبير اسم من أسماء الله الحسنى؛ وهناك مَنْ تساءل: ولماذا لا يوجد الأكبر ضمن أسماء الله الحسنى؛ ويوجد فقط قولنا الله اكبر في شعائر الصلاة؟
وأقول: لأن مقابل الكبير الصغير، وكل شيء بالنسبة لمُوجِده هو صغير. ونحن نقول في أذان الصلاة الله اكبر؛ لأنه يُخرِجك من عملك الذي أوكله إليك، وهو عمارة الكون؛ لتستعين به خلال عبادتك له وتطبيق منهجه، فيمدُّك بالقوة التي تمارس بها إنتاج ما تحتاجه في حياتك من مأكل، ومَلْبس، وسَتْر عورة.
إذن: فكلُّ الأعمال مطلوبة حتى لإقامة العبادة، فإياك أن تقول: إن الله كبير والباقي صغير، لأن الباقي فيه من الأمور ما هو كبير من منظور أنها نعم من المنعم الأكبر؛ ولكن الله أكبرُ مِنَّا؛ ونقولها حين يُطلَب منا أن نخرج من أعمالنا لنستعين بعبادته سبحانه.
ونعلم أن العمل مطلوب لعمارة الكون، ومطلوب حتى لإقامة العبادة، ولن توجد لك قوة لتعبد ربك لو لم يُقوِّك ربُّك على عبادته؛ فهو الذي يستبقي لك قُوتَك بالطعام والشراب، ولن تطعم أو تشرب؛ لو لم تحرُثْ وتبذر وتصنع، وكل ذلك يتيح لك قوة لِتُصلي وتُزكي وتحُج؛ وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وسبق أنْ قُلت: إن الحق سبحانه حينما نادانا لصلاة الجمعة قال: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]
وهكذا يُخرِجنا الحق سبحانه من أعمالنا إلى الصلاة الموقوتة؛ ثم يأتي قول الحق سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]
وهكذا أخرجنا سبحانه من العمل، وهو أمر كبير إلى ما هو أكبر؛ وهو أداء الصلاة.
وقول الحق سبحانه في وصف نفسه {المتعال} يعني أنه المُنزَّه ذاتًا وصفاتًا وأفعالًا؛ فلا ذات كذاته؛ ولا صفة كصفاته، ولا فعل كفعله، وكل ما له سبحانه يليق به وحده، ولا يتشابه أبدًا مع غيره. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.فائدة في ذكر تفسير شيعي في الآية الكريمة:

قال الدكتور محمد أبو شهبة:
ومن ذلك ما ذكره بعض المفسرين: كابن جرير في تفسيره، والسيوطي في: الدر المنثور ومفسرو الشيعة في تفاسيرهم، عند تفسير قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فقد فسروا المنذر: بالنبي صلى الله عليه وسلم، والهادي بأنه علي رضي الله عنه، والجمهور من المفسرين سلفا وخلفا على أن المنذر والهادي هو رسول الله وكذلك ما روي عند تفسير قوله تعالى: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَة} من أن المراد بها: أذن علي، فقد رووا: أن النبي صلى الله عليهوسلم لما نزلت الآية أخذ بأذنه وقال: «هي أذنك يا علي»، وفي رواية: «اللهم اجعلها أذن علي»، وهما موضوعان كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وغيره من الأئمة. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ...}. هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن لكل قوم هاديًا. وقد جاء في آيات أُخر ما يدلُ على أن بعض الأقوام لم يكن لهم هادٍ، سواء فسّرنا الهدى بمعناه الخاص أو بمعناه العام.
فمن الآيات الدالة على أن بعض الناس لم يكن لهم هاد بالمعنى الخاص؛ قوله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ} فهؤلاء المضلون لم يهديهم هاد الهدى الخاص، الذي هو التوفيق لما يرضي الله.
ونظيرها قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ}، وقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} إلى غير ذلك من الآيات.
ومن الآيات الدالة على أن بعض الأقوام لم يكن لهم هاد بالمعنى العام، الذي هو إبانة الطريق، قوله تعالى:: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ (6)} سورة يس بناء على التحقيق من أن {ما} نافية لا موصولة، وقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ..} الآية.
فالذين ماتوا في هذه الفترة، لم يكن لهم هادٍ بالمعنى الأعمِّ أيضًا.
والجواب عن هذا من أربعة أوجه.
الأول: أن معنى قوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أي داع يدعوهم ويُرشدهم، إما إلى خير الأنبياء، وإما إلى شر كالشياطين.
أي وأنت يا رسول الله منذر هادٍ إلى كل خير.
وهذا القول مرويٌّ عن ابن عباس، من طريق علي بن أبي طلحة، وقد جاء في القرآن استعمال الهدى في الإرشاد إلى الشر أيضًا، كقوله تعالى: {كُتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} وقوله تعالى: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم}، وقوله تعالى: {ولا ليهديهم طريقًا إلا طريق جهنم} كما جاء في القرآن أيضًا إطلاق الإمام على الداعي إلى الشر، في قوله: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار..} الآية.
الثاني: أن معنى الآية: أنت يا محمد صلى الله عليه وسلم منذر، وأنا هادي كل قوم ويُروى هذا عن ابن عباس من طريق العوفي، وعن محمد وسعيد بن جبير والضحاك وغير واحد. قاله ابن كثير.
وعلى هذا القول، فقوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}، يعني به نفسه جل وعلا.
ونظيره في القرآن قوله تعالى: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} يعني نفسه، كما قاله قتادة.
ونظيره من كلام العرب قول قتادة بن سلمة الحنفي:
ولئن بقيتُ لأرحلنَّ بغزوةٍ ** تحوي الغنائم أو يموت كريمُ

يعني: نفسه.
وسيأتي تحرير هذا المبحث إن شاء الله في سورة القارعة.
وتحرير المعنى على هذا القول: أنت يا محمد منذر، وأنا هادي كل قوم سبقتْ لهم السعادة والهدى في علمي؛ لدلالة آيات كثيرة على أنه يتعالى هدى قومًا وأضل آخرين، على وفق ما سبق به العلم الأزلي، كقوله تعالى: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ}.
الثالث: أن معنى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَاد} أي: قائد، والقائد: الإمام والإمام: العمل.
قاله أبو العالية، كما نقله عنه ابن كثير.
وعلى هذا القول، فالمعنى: ولكل قوم عمل يهديهم إلى ما هم صائرون إليه من خير وشر.
ويدلُّ لمعنى هذا الوجه قوله تعالى: {هنالك تتلو كل نفسٍ ما أسلفت} على قراءة من قرأها بتاءين مثناتين، بمعنى: تتبع كل نفس ما أسلف من خير وشر.
وأما على القول بأن معنى: {تتلو}: تقرأ في كتاب عملها ما قدمت من خير وشر، فلا دليل في الآية.
ويدل له أيضًا حديث: «لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت: الطواغيت...» الحديث.
الرابع: وبه قال مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد ـ: أن المراد بالقوم الأمة، والمراد بالهادي النبي.